سورة النحل - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ(22)}
وقَوْله الحق: {إلهكم إله وَاحِدٌ...} [النحل: 22].
تمنع أنْ يكونَ هناك أفراد غيره مثله، وقد يتصوَّر البعض أنها تُساوي كلمة (أحد). وأقول: إن كلمة (أحد) هي منع أن يكونَ له أجزاء؛ فهو مُنزَّه عن التَّكْرار أو التجزيء.
وفي هذا القول طَمْأنةٌ للمؤمنين بأنهم قد وصلوا إلى قِمَّة الفهم والاعتقاد بأن الله واحد.
أو: هو يُوضِّح للكافرين أن الله واحدٌ رغم أنوفكم، وستعودون إليه غَصْباً، وبهذا القول يكشف الحق سبحانه عن الفطرة الموجودة في النفس البشرية التي شهدتْ في عالم الذَّرِّ أن الله واحد لا شريك له، وأن القيامة والبعث حَقٌّ.
ولكن الذين لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم مَنْ ستروا عن أنفسهم فطرتهم، فكلمة الكفر كما سبق أنْ قلنا هي ستر يقتضي مستوراً، والكفر يستر إيمانَ الفطرة الأولى.
والذين يُنكرون الآخرة إنما يَحْرِمون أنفسهم من تصوُّر ما سوف يحدث حَتْماً؛ وهو الحساب الذي سيجازي بالثواب والحسنات على الأفعال الطيبة، ولعل سيئاتهم تكون قليلة؛ فيجبُرها الحق سبحانه لهم وينالون الجنة.
والمُسْرفون على أنفسهم؛ يأملون أن تكون قضيةُ الدين كاذبة، لأنهم يريدون أن يبتعدوا عن تصوُّر الحساب، ويتمنَّوْنَ ألاَّ يوجدَ حساب.
ويَصِفُهم الحق سبحانه: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22].
أي: أنهم لا يكتفُون بإنكار الآخرة فقط؛ بل يتعاظمون بدون وجه للعظمة.
و(استكبر) أي: نصَّب من نفسه كبيراً دون أنْ يملكَ مُقوِّمات الكِبر، ذلك أن (الكبير) يجب أن يستندَ لِمُقوِّمات الكِبَر؛ ويضمن لنفسه أنْ تظلَّ تلك المُقوِّمات ذاتيةً فيه.
ولكِنَّا نحن البشر أبناءُ أغيارٍ؛ لذلك لا يصِحُّ لنا أنْ نتكَبَّر؛ فالواحد مِنَّا قد يمرض، أو تزول عنه أعراض الثروة أو الجاه، فصفات وكمالات الكبر ليست ذاتية في أيٍّ مِنَّا؛ وقد تُسلب ممَّنْ فاء الله عليه بها؛ ولذلك يصبح من اللائق أن يتواضعَ كُلٌّ مِنَّا، وأنْ يستحضرَ ربَّه، وأنْ يتضاءلَ أمام خالقه.
فالحق سبحانه وحده هو صاحب الحق في التكبُّر؛ وهو سبحانه الذي تبلغ صفاته ومُقوِّماته منتهى الكمال، وهي لا تزول عنه أبداً.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله...}.


{لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23)}
وساعة نرى {لاَ جَرَمَ} فمعناها أنَّ ما يأتي بعدها هو حَقٌّ ثابت، ف (لا) نافية، و(جرم) مأخوذة من (الجريمة)، وهي كَسْر شيء مُؤْمَن به لسلامة المجموع. وحين نقول (لا جرم) أي: أن ما بعدها حَقٌّ ثابت.
وما بعد {لاَ جَرَمَ} هنا هو: أن الله يعلم ما يُسِرون وما يُعلِنون.
وكُلُّ آيات القرآن التي ورد فيها قوله الحق {لاَ جَرَمَ} تُؤدِّي هذا المعنى، مثل قوله الحق: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} [النحل: 62].
وكذلك قوله الحق: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} [النحل: 109].
وقد قال بعض العلماء: إن قوله الحق {لاَ جَرَمَ} يحمل معنى (لا بُدَّ)، وهذا يعني أن قوله الحق: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ...} [النحل: 23].
لا بُدَّ أن يعلم الله ما يُسِرون وما يُعلِنون، ولا مناصَ من أن الذين كفروا هم الخاسرون. وقد حَلَّلَ العلماء اللفظ لِيصِلوا إلى أدقِّ أسراره.
وعِلْم الله لا ينطبق على الجَهْر فقط، بل على السِّر أيضاً؛ ذلك أنه سيحاسبهم على كُلِّ الأعمال. ويُنهِي الحق سبحانه الآية بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} [النحل: 23].
وإذا سألنا: وما علاقةُ عِلْم الله بالعقوبة؟ ونقول: ألم يقولوا في أنفسهم: {لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ..} [المجادلة: 8].
وإذا ما نزل قول الحق سبحانه لِيُخبرهم بما قالوه في أنفسهم؛ فهذا دليل على أن مَنْ يُبلِغهم صادقٌ في البلاغ عن الله، ورغم ذلك فقد استكبروا؛ وتأبَّوْا وعاندوا، وأخذتهم العزة بالإثم، وأرادوا بالاستكبار الهرب من الالتزام بالمنهج الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ...}.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(24)}
وقوله الحق: {مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ...} [النحل: 24].
يُوضِّح الاستدراك الذي أجراه الله على لسان المُتكلِّم؛ ليعرفوا أن لهم رباً. ولو لم يكونوا مؤمنين بِرَبٍّ، لأعلنوا ذلك، ولكنهم من غفلتهم اعترضوا على الإنزال، ولم يعترضوا على أن لهم رباً.
وهذا دليل على إيمانهم بربٍّ خالق؛ ولكنهم يعترضون على محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزِل إليه من الله.
و: {قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24].
والأساطير: هي الأكاذيب، ولو كانوا صادقين مع أنفسهم لَمَا أقرُّوا بالألوهية، ورفضوا أيضاً القول المُنْزل إليهم.
ومنهم من قال: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].
ولكن هناك جانب آخر كان له موقف مختلف سيأتي تبيانه من بعد ذلك، وهم الجانب المُضَادَّ لهؤلاء؛ حيث يقول الحق سبحانه: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [النحل: 30].
ووراء ذلك قصة تُوضِّح جوانب الخلاف بين فريق مؤمن، وفريق كافر.
فحين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وعشيرته إلى الإيمان بالله الواحد الذي أنزل عليه منهجاً في كتاب مُعجز، بدأت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتشر بين قبائل الجزيرة العربية كلها، وأرسلت كُلَّ قبيلة وفداً منها لتتعرف وتستطلع مسألة هذا الرسول.
ولكن كُفَّار قريش أرادوا أن يصدُّوا عن سبيل الله؛ فقسَّموا أنفسهم على مداخل مكة الأربعة، فإذا سألهم سائل من وفود القبائل (ماذا قال ربكم الذي أرسل لكم رسولاً؟).
هنا يرد عليهم قسم الكفار الذي يستقبلهم: (إنه رسول كاذب، يُحرِّف ويُجدِّف). والهدف طبعاً أنْ يصُدّ الكفار وفود القبائل.
ويخبر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما حدث، وإذا قيل للواقفين على أبواب مكة من الوفود التي جاءت تستطلع أخبار للرسول: ماذا أنزل ربُّكم؟ يردُّون (إنه يُردِّد أساطير الأولين).
وهذا الجواب الواحد من الواقفين على أبواب مكة الأربعة يدلُّ على أنها إجابة مُتفق عليها، وسبق الإعداد لها، وقد أرادوا بذلك أنْ يَصرِفوا وفود القبائل عن الاستماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشبَّهوا الذِّكْر المُنزَّل من الله بمثل ما كان يرويه لهم على سبيل المثال النضر ابن الحارث من قصص القدماء التي تتشابه مع قصص عنترة، وأبي زيد الهلالي التي تروي في قُرَانا. وهذه هي الموقعة الأولى في الأخذ والرد.
ويُعقِّب الحق سبحانه على قولهم هذا: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً...}.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11